بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فاتقوا الله -جل وعلا-، واعلموا أن اهتمام كل واحد منَّا وانشغاله بما يعنيه أنَّ ذلك خير له في العاجل والآجل، فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، ومن اشتغل بغيره من الناس نسي أمر نفسه، وأوشك اشتغاله بالناس أن يوقعه في أعراضهم. كما أن انشغال المرء بنفسه مما يعينه على حفظ وقته الذي هو رأس ماله، فيبادر إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات، والمسارعة في خدمة نفسه وأهله ومن حوله بما يثقل من موازين حسناته. وكلما كان حريصاً على أن يدع ما لا يعنيه وأن يترك اللغو والفضول؛ كان ذلك أحفظ لوقته، وأسلم لدينه، ودليلا على كمال إسلامه. وعلى كل واحد منا أن يشتغل بما يهمه وينفعه من أمور معاشه ومعاده، فإن العمر قصير، والناقد بصير، ومن نجح في استغلال وقته وأحسن تنظيمه؛ وجد لذلك من الثمرات ما لا يعد ولا يحصى، ولا يخفى على كل لبيب أن من العادات ما يكتسب بالتعود، فالعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، وكم من عادة طيبة صارت طبعاً، وجنى الإنسان منها ثمرةً ونفعاً، فاتقوا الله وجاهدوا أنفسكم في الله -جل وعلا-، تفوزوا بنعيم الدنيا والآخرة.
وسيكون لنا وقفة ثانية مع هذا الحديث العظيم بحول الله وقوته. أسأل الله -جل وعلا- أن يسدد ألسنتنا، وأن يصلح سخائم قلوبنا، وأن يأخذ بأيدينا للبر والتقوى، وأن يعصمنا من الزلل، وسوء القول والعمل؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، فقد أمركم الله بذلك فقال -جل من قائل عليماً-: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
يقول الحسن -رحمه الله-: " من علامة إعراض الله -تعالى- عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه ". وقيل للقمان -عليه السلام-: ما بلغ بك ما نرى؟ يريدون الفضل. فقال: " صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني ". فكلما كان المسلم حريصاً على تنزيه تلك الجوارح كان ذلك علامة على شغله بنفسه وتقويمها ومجاهدتها، وإبعادها عن كل ما لا ينفعها. والعكس صحيح. ثانياً: فيه إشارة إلى أن الناس ينقسمون في دين الله إلى قسمين: قسم حسُنَ إسلامُه، وقسمٌ آخر ساءَ إسلامه. فمن كان حريصاً على الخصال الحميدة والأعمال الطيبة وابتعد عن أراذلها دلَّ ذلك على حسن إسلامه، أما من كان حريصاً على الخصال والأعمال السيئة كان ذلك دليلاً على سوء إسلامه. قال الشافعي: " ثلاثة تزيد في العقل: مجالسة العلماء، ومجالسة الصالحين، وترك الكلام فيما لا يعني ". وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: " إن من لم يترك ما لا يعنيه، فإنه مسيء في إسلامه ". ثالثاً: فيه توجيه لطيف إلى أهمية الوقت، وهو عمر الإنسان الفعلي في هذه الدنيا، وأنه يجب الحرص على استثماره في النافع من القول والعمل، والبعد عن كل ما لا فائدة فيه، قال -صلى الله عليه وسلم-: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " أخرجه البخاري.
نعم -يا عباد الله-: فكَمْ جَلَبَ الِاشْتِغَالُ بمَا لَا يَعْنِي مِنْ مَصَائِب! وكم تسبب في وقوعِ المشاكل والمَتَاعِب! وَكَمْ عَادَ عَلَى صَاحِبِهِ بالنَقْصِ والمعايب، وَمَا فَتَحَ الانسانُ عَلَى نفسه أَبْوَابًا الإثمِ، وَمَا ظَلَمَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، بِمِثْلِ اشْتِغَالِهِ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، وتَدخُلِه فيما لا يخصه، فكم من خُصُوصِيَّات أُشِيعَتْ، وَكم من صُدُورٍ أُوغِرَتْ، وَكم من ضَغَائِن حَلَّتْ، وَأُسَرٍ تَمَزَّقَتْ ثُمَّ تَفَرَّقَتْ، بسبب الِاشْتِغَالَ بمَا لَا يَعْنِي. الْمُتَدَخِّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ تَوْفِيقًا، وَمِنْ أَضْعَفِ الْعِبَادِ مُحَاسَبَةً لِنَّفْسِه، مهموم مغموم، يُلَاحَقُ الْخُصُوصِيَّاتِ، وَيَتبعُ الْأَخْبَار، ويَحْرِصُ عَلَى مَعْرِفَةِ تفاصيل حياةِ الآخرين، وَالْبَحْثِ فِي أَدَقِّ شؤنهِم، وفي المثل المشهور: "من راقب الناس مات هماً". ثم إن الانشغال بشؤون الآخرين لا بد أن يفضي إلى المشاكسات والمُلاسَنات، والدخول في دائرة الظنون والتكهُّنات، فيسيء أكثرَ مما يحسن، ويهدمُ أكثرَ مما يبني، وفي الحديث الصحيح: " وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم "، وفي صحيح البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: " المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَنْ هجر ما حرم الله " ، وفي الحديث الصحيح ايضاً: قال صلى الله عليه وسلم: " من تتبع عورة أخـيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيـته ".
مقالات متعلقة تاريخ الإضافة: 31/12/2020 ميلادي - 17/5/1442 هجري الزيارات: 31208 مِنْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعْنيه الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام الأتمَّان على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد. فإن رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم آتاه اللهُ تعالى جوامِعَ الكَلِم، واختصر له الكلام اختصاراً، فكلامُه جَمَعَ المعاني الكثيرة الجليلة؛ مع أنَّ الألفاظ قليلة، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ؛ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ» صحيح - رواه الترمذي. فهذا الحديث أصلٌ عظيم في تأديبِ النفس وتهذيبِها، وبلوغِها الكمال الخُلُقي، وصيانَتِها عن الرَّذائل والنَّقائص، وتَرْكِ ما لا جدوى فيه ولا نَفْع من الأقوال والأفعال. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ الوَرَعَ كلَّه في هذا الحديث؛ لأنه يَعُمُّ التَّرْكَ فيما لا يعني؛ من الكلام، والنَّظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفِكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه نصيحةٌ شافِيةٌ في الوَرَع - كما قال ابن القيم رحمه الله. وهَدْي السَّلَف في الكَفِّ عمَّا لا يعنيهم، ومُحاسبةِ أنفسِهم في ذلك معروفٌ مَحْفوظ ، وقد دخلوا على بعضِ الصحابة في مَرَضِه، ووجْهُه يتهَلَّل، فسألوه عن سبب تَهَلُّلِ وجهه؛ فقال: (ما من عملٍ أوثقُ عندي من خَصْلَتين: كنتُ لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليماً للمسلمين).
Sitemap | طاهر كتلوج ويكيبيديا, 2024